سورة المائدة - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)}
كيف إذن يعلنون هذا التمرد على امر الحق؟. وكيف علموا أن فيها قوماً جبارين؟. ولنا أن ننتبه إلى أن الحق قد قال من قبل: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً} [المائدة: 12].
فقد ذهب النقباء أولاً وتجسسوا ونقبوا وعرفوا قصة هذه الأرض المقدسة، وأن فيها جماعة من العمالقة الكنعانيين. وساعة رأوا هؤلاء القوم، قالوا لأنفسهم: هل سنستطيع أن نقاوم هؤلاء الناس؟ إن ذلك أمر لا يصدق؛ لذلك لن ندخلها ما داموا فيها. إذن فقد تخاذلوا وارتدوا على أدبارهم. {قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ}.
وساعة أن تسمع كلمة (جَبَّار) تجدها أمراً معنوياً أُخذ من المحسات؛ فالجبارة هي النخلة التي لا تطولها يد الإنسان إذا أراد أن يجني ثمارها. وعندما تكون ثمار النخلة في متناول يد الإنسان حين يجني ثمارها فهي دانية القطوف، أما التي لا تطولها يد الإنسان لحظة الجني للثمار فهي جَبَّارة؛ لذلك أخذ هذا المعنى ليعبر عن الذي لا يقهر فسمي جباراً، وقد يكون الجبار مُكرِهاً ولكن على الإصلاح، وفي بلادنا نطلق على من يصلح كسور العظام (المجبراتي).
أي أنه يجبر العظام على أن تعود إلى مكانها الطبيعي. وقد يتألم الإنسان من ذلك، ولكن في هذا إصلاح لحياة الإنسان. و(الجَبَّار) اسم من أسماء الله؛ لأنه سبحانه يَقْهَر ولا يُقهَر. وقد يُكرهنا سبحانه وتعالى حتى يصلحنا. ويخنبرنا بالابتلاءات حتى يمحصنا وتستوي حياتنا.
إذن ف (الجبار) صفة كمال في الحق لأنه يستعمل جبروته في الخير ويقهر الظالمين والمعاندين والمكابرين، وذلك لمصلحة الأخيار الطيبين. وهو سبحانه وتعالى لا يُقهَر. فعندما يكون في صف جماعة فإن أحداً لا يغلبهم، أما الجبار كصفة في الخلق فعي مذمومة؛ لأن التجبر هنا بدون أصالة كالبناء الأجوف. فالمتجبر قد يصيبه قليل من الصداع فيرقد متوجعاً.
إننا نرى أمثلة لذلك في حياتنا، نجد المتجبر يصاب بأزمة قلبية فيحمل على نقالة إلى المستشفى، ونجد جباراً آخر يصاب بقليل من المغص، فيجري وهو ممسك ببطنه فيضحك عليه الأطفال. ويقولون له ما معناه: العب بعيداً فلست جباراً ولا فتوة ولا أي شيء. والجبار إن أراد أن يكون كذلك فعليه أن يكون صاحب رصيد مستمر، فلا تراه يوماً غير جبار. ولا يكون التجبر صفة ذاتية إلا لله سبحانه وتعالى.
ويقول الحق: {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا} وساعة نسمع (لن) تسبق الفعل فلنعرف أنها للنفي. والنفي قد يأخذ زمناً طويلاً، وقد يأخذ زمناً تأبيدياً. والفرق بين الدخول فقط والدخول التأبيدي، أن الدخول الأول له زمن ينهيه، والدخول الثاني لا زمن له لينهيه كدخول المؤمنين الجنة.
وإذا عين الدخول بغاية كقولهم: {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا} أي أن النفي التأبيدي مرتبط بغاية وهي خروج القوم الجبارين. والتأبيد هنا إضافي لأنهم قالوا: إنهم لن يدخلوا الأرض في مدة وجود الجبارين.
{فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} ونقول: وهل الأمم التي تخطو إلى الشر وتمارسه يمتنع فيها وجود عناصر الخير؟. لا؛ لأن الحق يبقي بعضاً من عناصر الخير حتى لا ينطمس الخير، وهذا ما يوضحه الحق في بني إسرائيل عندما قالوا لموسى هذا القول، فقد خالفهم رجلان منهم: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين...}.


{قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)}
وهما رجلان يخالفان النكوص عن أمر الله، بينما بنو إسرائيل- كمجموع- لم يفهموا عن الله حق الفهم؛ لأنهم لو نفذوا أمر الله لهم بالدخول إلى الأرض المقدسة ولم ينكصوا لمكنهم الله من ذلك. لكن لم يفهم عن الله فيها إلا رجلان. وهما كالب، ويوشع بن نون، أحدهما من سبط يهوذا والآخر من سبط افرايم، وهما ابنا يوسف عليه السلام، فقد قالا: مادام الله قد كتب لكم الدخول، فهو لا يطلب منا إلا قليلاً من الجهاد.
فحين يأمر الله الإنسان بعمل من الأعمال، فيكفيه أن يتوجه إلى العمل اتجاهاً والمعونة من الله. وسبحانه يقول للعبد: (أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ، ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرّب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).
فإذا كان الشأن في المشي أن يتعب الذاهب والسائر، فالله لا يرد أن يرهق بالمشي من يقصده ويطلبه؛ لذلك يُهرول فضله ورحمته سبحانه إلى العبد. فالرغبة الأولى أن يكون العمل لك أنت أيها العبد. ومن عظائم فضل الله أنه فعل ونسب إليك. وسبحانه يسعد بالعبد الساعي إليه. وأضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- لنفترض أنك أردت أن تمسك سيفاً، لماذا لا تحلل المسألة؟. السيف الذي تمسكه، صنعته من الحديد، والحديد استخرجته من الأرض.
والحق قال: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25].
إن الحق هو الذي أنزل الحديد، وهو الذي علمنا كيف نصقل الحديد ونشكله بالنار: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80].
وأنا أريد من علماء وظائف الأعضاء أن يحددوا لنا ساعة أن يمسك الإنسان بشيء وليكن السيف. فبأي عضلة يمسك الإنسان السيف؟. وكيف يأمرها الإنسان بذلك؟. وكم عضلة وكم خلية عصبية تحركت من أجل أداء هذا الفعل؟. على الرغم من أن الإنسان بمجرد إرادته أن يمسك شيئاً. فهو يمسك به. والإنسان إذا ما مشى خطوة واحدة، فبأي العضلات بدأ المشي.
إن الإنسان عندما يحرك ذراعاً آلياً في جهاز آلي؛ يصمم عشرات الوصلات والأدوات والدورات الكهربية من أجل تحريك ذراع آلي، فكم إذن من عضلات في الإنسان تتحرك بالسير لخطوة واحدة؟ إن الكثير جداً من أجهزة الإنسان تتحرك بالسير لخطوة واحدة. إن الكثير جداً من أجهزة الإنسان تتحرك لمجرد الإرادة منه!!. فإذا كانت إرادة الإنسان تفعل لمجرد أن يريد سواء أكانت هذه الإرادة هي الإمساك بالسيف أم حتى المشي لخطوة واحدة، أم حتى الإمساك بالقلم بين الأصابع للكتابة.
فليعلم الإنسان أن الإرادة عطاء من الله والإنسان لا يستطيع تحديد مواقع إرادته من جسده فما بالنا بالحق حين يريد أمراً؟
ولنعد إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الآن: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
لقد أنعم الله على هذين الرجلين بحسن الفهم عن الله، فقالا لبني إسرائيل: ساعدوا أنفسكم بدخول هذه الأرض وسينصركم الله. ومثل الرجلين كمثل الأم التي طلب منها ابنها أن تدعو له بالنجاح، فقالت الأم لابنها: سأدعو لك ولكن عليك فقط أن تساعد الدعاء بالإقبال على الاستذكار. وكأن الخوف من مخالفة أمر الله نعمة على هذين الرجلين، وكأن الفهم عن الله لعباراته نعمة.
{ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} كأنهم بمجرد الدخول سيغلبون هؤلاء العمالقة. فلم يطلب منهم قتال هؤلاء العمالقة. بل ساعة يراهم القوم الجبارون يدخلون عليهم فجأة فسوف يذهلهم الرعب.
وهم عندما نسجوا الأساطير حول هذه القصة قالوا: إن أحد هؤلاء العمالقة واسمه عوج بن عناق خرج إلى بستان خارج المدينة ليقطف بعض الثمار لرئيسه؛ فخطف اثنين من هؤلاء الناس وخبأهما في كمّه، وألقاهما أمام رئيسه وهو يقدم الفاكهة إليه وقال الرجل العملاق لرئيسه: هذان من الجماعة التي تريد أن تدخل مدينتنا. هذه هي المبالغة التي صنعها خوفهم من هؤلاء العمالقة، برغم أن رجلين منهما أحسنا الفهم عن اللَّه بقولهما: {ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب}؛ لأن هذا هو مراد الله، وهو الذي يحقق لهم النصر.
وبعض المفسرين قالوا في شرح هذه الآية: إن الرجلين اللذين قالا ذلك ليسا من بني إسرائيل؛ لأن هؤلاء المفسرين فهموا القول الحكيم: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ} قالوا هما رجلان من الذين يخاف منهم بنو إسرائيل، وقالا لبني إسرائيل: لا يُخيفكم ولا يُرهبكم عظم أجسام هؤلاء فإن جنود الله ستنصركم: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31].
ويختتم الحق الآية بهذا التذييل: {وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي لا تتوقفوا عند حساب العدد في مواجهة العدد، والعُدة في مواجهة العُدة، ولكن احسبوا الأمر إيمانياً لأن اللَّه معكم {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ}.
وهو سبحانه القائل: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173].
وعلى المؤمن باللَّه أن يضع هذا الإيمان في كف قوته. فإن كان هؤلاء الناس من بني إسرائيل المأمورين بدخول تلك الأرض مؤمنين بحق فليتوكلوا على اللَّه.
فماذا قال هؤلاء القوم: {قَالُواْ ياموسى...}.


{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)}
كأن خلاصة قولهم لموسى عليه السلام: لا ترهق نفسك معنا ووفّر عليك جهدك فنحن لن ندخل هذه الأرض، مادام هؤلاء العمالقة فيها. وإن كانت مصرّاً على دخولنا هذه الأرض فاذهب أنت وربك فقاتلا ونحن بانتظاركما هنا قاعدون. هكذا بلغ بهم الخوف أن سخروا من موسى وربّ موسى. وهكذا وصل بهم الاستهزاء إلى تلك الدرجة المُزرية. ولم يكن ذلك بالأمر الجديد عليهم فقد قالوا من قبل: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153].
ومن قبل ذلك أيضاً عبدوا العجل. فماذا يقول موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا...}.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11